الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدارك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 4 7] ثم قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 4 7] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتًا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وان اتفق اتفاقهمافي بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة {وَمِن كُلّ} الخ حالية، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقال أبو حيان: إن قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى البحران} الخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه.وقال الإمام: الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عز وجل، وما ذكرنا أولًا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه {وَتَرَى الفلك} السفن {فِيهِ} أي في كل منعما وانظر هل يحسن رجوع الضمير للحبر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط {مَوَاخِرَ} شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق.قال الراغب: يقال مخرت السفينة مخرًا ومخورًا إذا شقت الماء بجوجئها، وفي الكشاف يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بنات مخر لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة النحل {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} بتقديم {مَوَاخِرَ} وتأخير {فِيهِ} وعكس هاهنا فقيل في وجه لأنه علق {فِيهِ} هنا بترى وثمت بمواخر، ولا يحسم مادة السؤال.والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 4 3] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادًا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفًا فقدم فيه {فِيهِ} إيذانًا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكأن الاهتمام بما هن اقتضى أن يقال في تلك الآية {وَلِتَبْتَغُواْ} بالواو، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تاعلى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه.واللام متعلقة بمواخر، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكرة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عز وجل وتوحيده سبحانه.ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك، وقال كثير: هي للترجي ولما كان محالًا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤل إلى أمره تاعلى بالشكر للمخاطبين.{يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل}.بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطف على {يُولِجُ} واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره، وقد أشير إليه بقوله تعالى: {كُلٌّ} من الشمس والقمر {يَجْرِى} أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرًا {لأجل مُّسَمًّى} قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن.وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلًا {ذلكم} إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى، وفي الكشاف ويجوز في حكم الأعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و{بِكُمْ} خبرًا لولا أن المعنى يأباه. اهـ.قال في الكشف: فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفًا لاسم الإشارة البتة لا لفظًا ولا معنى، وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة، أما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل: إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالإلهية لا أن المنفرد بالالهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الاطلاق.وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشرك ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا اسم مبهم، وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام، وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفًا أو بيانًا لكان المشاء إليه ما بعده، وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله: أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك، وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فاسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر. اهـ.وأبو حيان: منع صحة الوصفية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك، ويجوز أن يكون قوله تعالى: {لَهُ الملك} جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ويكون ذلك مقررًا لما قبله من التفرد بالالهية والربوبية واستدلالًا عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهى له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء، ولذا قيل إن فيه قياسًا منطقيًا مطويًا.وجوز أن يكون مقررًا لقوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ} [فاطر: 11] الخ وقوله تعالى: {يُولِجُ} الخ فجملة {الذين تَدْعُونَ} الخ عليه إما استئنافية أيضًا وهي معطوفة على جملة {له الملك} وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له، وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة {ذلكم الله} الخ أو حال أيضًا، والقطمير على ما أخرج ابن جرير.وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور.وأخرج ابن جرير وابن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة، وقال الراغب إنه الأثر على ظهر النواة، وقيل هو قشر الثوم، وأيًا ما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف، قال الشاعر:
وقرأ عيسى. وسلام. ويعقوب. يدعون بالياء التحتانية.{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع، هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة وعيسى وغيرهم من المقربين، وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام، وروي هذا عن البلخي أو لأن الله عز وجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه، فلا يرد أن الملائكة عليهم السلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه؛ وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم السلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندي بل في سماع كل من الملائكة عليهم السلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الآلهية توقف عندي أيضًا إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به.{وَلَوْ سَمِعُواْ} على سبيل الفرض والتقدير {مَا استجابوا لَكُمْ} لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد باللاستجابة الاستجابة بالقول، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم لعجزهم عن الأفعال بالمرة، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القوللية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضًا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصًا في العبودية والخضوع لله عز وجل.ويجوز أن يكون هذا تعليلًا للأول أيضًا فتأمل {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فضلًا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة: وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر، وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 0 4، 41] {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيرًا خبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنًا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفى ما يدعون لهم من الإلهية.وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل: ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسهما بأنها ليست بآلهة، وفيه من البعد ما فيه. اهـ.
|